ربما كانت مجرد مصادفة ان تصدر مجموعة «البحث عن آفاق أرحب»، التي تضم بانوراما تاريخية للقصة القصيرة في الكويت، قريبا جدا من ذكرى ميلاد تشيكوف (29يناير 1860 ). و إذا كانت هناك وفرة من المتابعات حول الكتاب فان إعادة النظر في القصة القصيرة ذاتها عن طريق أحد أهم أعلامها ربما تلقي الضوء على مسارها ومستقبلها أيضا. لقد مرت ذكرى تشيكوف بسلام، أحد الذين صنعوا للقصة القصيرة عالمها الخاص وقت ان كانت الرواية في عنفوانها الذي عرفه القرن التاسع عشر، خاصة الأدب الروسي مع عملاقيه دوستويفسكي وتولستوي. دخل تشيكوف الطبيب، ابن التاجر وحفيد القن من فرجة صغيرة في باب الأدب ليصنع منها عالما قويا مليئا بالحياة، ذلك العالم الذي تحدث عنه جوركي في إحدى رسائله الى تشيكوف قائلاً : «بعد قراءة أي من قصصك، مهما كانت قيمتها، يبدو العالم فجا غليظا كما لو انه لم يكتب بالقلم، بل بهراوة».
كانت الرواية في طريقها الى أكثر أشكالها اكتمالا قد أخذت تقترب من تمثيل الوضع الانساني الشامل، وارثة من الملحمية نفسها الطويل وصراعها البطولي، واضعة أبطالها على الأرض. أبطال مدنيون، صنعت بهم أدبا علمانيا بعيدا عن التخييل الخرافي، أو الأسطوري والغيبي. وجعلت من الزمن كقضية إشكالا كبيرا ليس كمجرى تلقائي منفصل للأحداث بل كعتبة للتحولات الكبرى، وكحالة من التعاصر، حيث كثيرا ما تصف أحداثا متزامنة في أماكن متفرقة، كانت تصنع ما يمكن تسميته روح الزمان، وكانت هذه الروح بدورها تفرض نفسها على الأزمنة الخاصة بالأفراد أو الجماعات . كانت الرواية قد أقامت صرحا تأويليا للعالم، ينافس الصروح الفلسفية التي أقامها كل من كانت أو هيجل أو ماركس. ومن ثم، لم يكن غريبا ان تلقي الرواية بظلال نفوذها الى خارج دائرتها كنص متعد كما حدث لدوستويفسكي الذي تأثرسيجموند فرويد بتحليلاته وشخوصه المركبة على المستوى النفسي ، وكما حدث على المستوى الشخصي حين اقتدى الفيلسوف الشهير ( فتجنشتاين ) بأفكار تولستوي فتنازل عن ميراثه.
حكاية الإنسان الصغير
جاءت القصة القصيرة على يد تشيكوف لتلتقط اللحظة الأشد مأساوية ، وهي عجز الانسان البسيط عن صناعة دراما متكاملة. فحتى في الرواية يظل الأبطال أبطالا بما يحتلونه من مساحات للسرد، الذي يتتبع كل تفاصيلهم الداخلية والخارجية، ويصنع، مثلما الأشعة الطبية والمناظير الحديثة، أدوات لقراءة النوايا والنوازع المضطربة، حيث تمتد شخصية الانسان البسيط لتصبح علامة على زمن كامل أو طبقة بأسرها. أو أزمة انسانية أو حضارية.
في القصة القصيرة اكتفاء متواضع ومؤلم في تناقضه عند لحظة في حياة انسان، المدهش ان هذه اللحظة تجسد حياته كلها بضربة واحدة، مبرزة هشاشة الوضع الانساني كله. ففي القصة الشهيرة «موت موظف» يتكفل حدث تافه (عطسة في قفا مسؤول كبير) بكشف وتعرية حياة الموظف ( البرجوازي ) الصغير الذي يجد نفسه مسحوقا بالرعب، ومطاردا بالهواجس التي صنعها تواضع مكانته في الحياة، وجهله بالـ «كبار» الذين ينظر إليهم كآلهة، ولكنهم آلهة دون ان يتعمدوا ذلك. وهذا هو المهين أكثر، يسقط الموظف ويموت داخل عطسته المأساوية ودون ان يحصل حتى على المغفرة.
زمن تشيكوف
يختلف زمن تشيكوف عما نعيشه الآن من جهتين على الأقل: طبيعة دور الفنان الاجتماعي من ناحية، وبروزه كشخصية تتماهى مع أبطال الروايات و القصص، أي تمثل حياتها دراما موازية للحياة التي ينتجها على الورق. يتحدث المؤرخ الكبير إريك هوبسباوم عن الفترة السابقة على ميلاد تشيكوف في أوروبا كلها قائلاً «لاشك ان فناني تلك الفترة استوحوا الكثير من الشؤون العامة مباشرة أو شاركوا فيها، وقل ان نجد فترة كان فيها الفنانون منحازين بصورة كلية كما حدث في ذلك الوقت، بل انهم كانوا يعتبرون خدمة النشاط السياسي واجبهم الأساسي»، حتى ان ألفرد دي موسيه، أحد مؤسسي فن القصة القصيرة والمشغول بالتعبير عن أهداف ذاتية، كان يرى «ان الكتاب ينزعون في مقدماتهم الى الحديث عن التقدم الاجتماعي والانسانية والمدنية». كان بيتهوفن قد أهدى سيمفونية إيرويكا الى نابليون بوصفه وريث الثورة الفرنسية، وكان غوته رجل دولة وموظفا حكوميا نشطا، وكتب تشارلز ديكنز مهاجما المساوئ الاجتماعية وحكم على فيودور دوستويفسكي بالإعدام عام 1849 لنشاطه الثوري، وكان الشاعر هايني على صداقة قوية بكارل بماركس وناطقا غامضا بلسان اليسار المتطرف، أما الشاعر شيللي فكان يسبغ على الشعراء لقب «مشرعو العالم غير المعترف بهم».
كانت روسيا نهايات القرن التاسع عشر مصبوغة بالغموض و الشك، غير ان تشيكوف على النقيض من الروائيين الانبياء، وعلى رغم التزامه الاجتماعي والانساني كان حريصا على نوع من الموضوعية ربما هو الذي حدا به الى اختيــــــــــــــــــار «القصة القصيرة» هروبا من الخطابات الكبرى والرؤى الشمولية. فبعد ان عمل لفترة في الصحافة منذ عام 1886 بدعوة من صديقه سوفورين استطاع ان يطور مفهومه عن المؤلف المحايد غير المعني بإصدار أحكام، و كان قد حدد نقاط ست لكتابته :
1ـ غياب الثرثرة المستفيضة عن الأطر الاجتماعية والسياسية والاقتصادية 2ـ الموضوعية الكاملة 3ـ الأمانة والصدق في وصف الشخصيات 4ـ الإيجاز الشديد 5ـ الجرأة والأصالة 6ـ الشفقة. وربما كانت النقطة الأخيرة تعني التعاطف الانساني، لا المزايدة الدعائية على الآلام الانسانية. تشيكوف الذي تخرج من مدرسة الطب عام 1884ومارس المهنة حتى عام1892 كان يمزج في عمله بين الاناة والروح العلمية لطبيب وبين التفهم النفسي العميق كفنان. كان تشيكوف يرسم عادة صورا للحياة في المدن الصغيرة في روسيا ( بخلاف دوستويفسكي المعني ببطرسبرج كمدينة تحولات ) حيث المآسي تبدو جزءا لا يتجزأ من نسيج الحياة اليومية. وتبدو شخوصه سلبية تماما إزاء حياتها، مملوءة بمشاعر انعدام الثقة بالذات، وعدم الجدوى من بذل أي جهد لتغيير الحياة تحت شعار «و ما الذي سيختلف إذن»، ( ؟What difference dose it make).
ربما كشفت قصص تشيكوف عن روح تشاؤم اجتماعي و انساني حيث يقول : «ان الانسان قد وهب العقل و القدرة على الإبداع و هذا يعني ان لديه الإمكانية للإضافة الى ما وهبته إياه الحياة، ولكن حتى الآن لم يبد الانسان كمبدع قط، بل كمدمر، الغابات تختفي والانهار تجف، والحياة البدائية البسيطة تنقرض، والطقس يخرب، والأرض تبدو أكثر فقرا وقبحا يوما بعد يوم». العجيب ان يكتب هذا الكلام في نهاية القرن التاسع عشر.
أما كانسان فيمثل الصعود والموت المبكر لتشيكوف إحدى الحلقات الدرامية المكملة لصورة الفنان الذي يهرب من المدرسة ليشاهد المسرح، والذي يعاني طفولة كئيبة مزعجة: «حين أستعيد أفكاري عن سنوات طفولتي فانها تبدو أمامي مظلمة وقاتمة »، كان الأب المتعصب، والذي انتقل للحياة في موسكو بعد إفلاسه، قد ألقى بظلال تعصبه الديني وحياته الجافة على سنوات تشيكوف الطفل، تلك الحياة التي تحدث عنها فيما بعد قائلا «الاستبداد و الكذب شوّها طفولتنا الى درجة الشعور بالغثيان والخوف من مجرد أي محاولة لاستدعاء ذكرياتها».
أيمكن أن تكوني مغفلة إلى هذه الدرجة ؟
«المغفلة» ليست أجود أعمال تشيكوف القصصية، لكنها تلقي بظلالها على علاقة القص باختزال بالحياة، تقدم القصة المربية يوليا، التي تتعرض الى مزحة ثقيلة من مخدومها. تقع يوليا تحت طائلة مساومة متدرجة على تخفيض أجرتها، وفي كل مرة تخضع مطأطئة «merci» حتى يصل الأمر الى درجة غير مقبولة من الإجحاف، يتوجه مخدومها بسؤاله مندهشا «لقد سرقتك فعلام تقولين merci ؟» تجيب يوليا «في أماكن أخرى لم يعطوني شيئا» و يتساءل الراوي «لماذا لا تحتجين؟ هل يمكن ان تكوني مغفلة الى هذه الدرجة ؟» تصمت يوليا وفي ابتسامة عجزها كلمة «يمكن».
ان سؤال الراوي «أيمكن ان تكوني مغفلة الى هذه الدرجة ؟» هو إدانة قاسية ومتعاطفة أيضا، تظل لها راهنيتها و نحن نبيع حياتنا كل يوم، وبكامل الإرادة، نتحسس قروشنا و نهمس «merci».
لكن القصة الأكثر عصرنة وغرابة هي قصة «فرحة» حيث يدخل ميتيا على والديه وأسرته طائرا من السعادة لان إحدى الجرائد ذكرت اسمه في معرض حادثة ما وهو يطير بالجريدة «الآن أصبحت روسيا كلها تعرفني» ليس في القصة حدث حقيقي و لكنه الولع المبكر جدا بالتمظهر، وبان يكون الانسان مرئيا ومشاهدا من قبل آخرين، وان يكون ذلك تعويضا هائلا عن وضاعة وهشاشة موقعه الفعلي، منذ ذلك التاريخ أصبح الاستلاب الذي يمثله الإعلام هو عملية تفريغ دائمة للوجود الفردي لانسان يبحث عن صورته في مكان آخر.
الى أين تتجه القصة القصيرة الآن ؟
من المحير ان يتراجع نفوذ القصة القصيرة الآن على رغم ادعاء الصلة بينها وبين السرعة والاختزال والعابرية التي يتميز بها نثر الحياة اليومية. لكن ربما كان السرد القصصي متواجدا في مساحات تتجاوز الأدب بمعناه التقليدي. فعلى صفحات المدونات بالانترنت أو الفيس بوك أو اليو تيوب وغيرها تنهمر الثرثرة ولقطات سريعة من حيوات بعضها حقيقي وبعضها مختلق، يبتكر شكلا من أشكال سرد الواقع. كما تبتعد الوظيفة الإخبارية للتلفزيون عن مسارها وتمزج طابعها الإخباري بروح درامية تصنع أبطالا يوميين يقفون على خيط دقيق بين الحقيقة والخيال.