للسندباد حديث لا ينتهي؛ لأن ذكره وارد في كل ناحية من نواحي الحياة، وله وضع خاص في الكويت والبلاد العربية، وسوف يكون لنا في هذا المقال حديث مختلف عنه، إضافة إلى ما سبق أن كتبناه عنه في مقال سبق لنا نشره منذ فترة طويلة.
بداية، الدافع إلى كتابة هذا المقال هو ما أثارته زيارة صديق عزيز لديوانية الثلاثاء، وهو الصديق خالد محمد صقر المعوشرجي، ابن الأخ الكريم المرحوم محمد المعوشرجي الذي كان من أعلام هذه الديوانية الحريصين على حضور جلساتها إلى أن منعه ظرفه الصحي من الحضور، ثم تفاقم معه هذا الحال فأدى إلى وفاته مأسوفاً عليه من جميع محبيه، ولا يزال ذكره يتردد بيننا وكأنه لم يفارقنا إلى رضوان ربه.
كان أبو وليد (خالد المعوشرجي) قد جاء كعادته لزيارة الديوانية تأسِّياً بما كان يقوم به أبوه وجاء في هذه المرة وهو يحمل هدية ينتظرها الجالسون، وهي الكتاب المحتوي على مذكرات والده حول عمله في دائرة بلدية الكويت، وقد رحّب الأخوة الحاضرون بالكتاب، وتناول كان واحد منهم نسخة منه، وقدموا الشكر إلى المهدي على هديته، وعلى اهتمامه بأثر مهم من آثار والده كان من أحب ما يعمر نفوسهم هو الحصول عليه.
وكان لابد لخالد من أن يتحدث قليلاً عن بعض ذكرياته المتصلة بوالده، فقال:
- كان أبي - رحمه الله - يهتم كثيراً بتوجيهي إلى القراءة والاطلاع منذ كنت صغيراً، وأذكر أنه كان يحرص على تزويدي بمجلة سندباد للأولاد التي كانت تصدر لمن هم مثل سني، ويقبل عليها القراء في عدد من بلاد العرب.
وهنا تنبهت إلى أمر مهم، وهو وجود صورة للغلاف الأول من أغلفة مجلة «سندباد» الذي صدر في شهر مارس لسنة 1952م كانت معلّقة في الديوانية مع مجموعة من الصور التي تلفت أنظار الحاضرين دائماً، وتشكّل تعبيراً حياً عن كثير من الأمور المثارة.
فأمرت الساقي بإحضار الصورة، وأريتها لضيفنا الكريم، مؤكداً له أنني كنت - أيضاً - من الحريصين على قراءة هذه المجلة الرائدة. وقلت - ليلتذاك - أنني كنت في صباح كل يوم خميس أجلس مع زميل لي أمام مكتبة الطلبة التي كان يمتلكها ويديرها المرحوم عبدالرحمن الخرجي، وكلنا شوق إلى الحصول على المجلة التي كان يحضرها كل أسبوع في مثل هذا اليوم. وكان لها - غيرنا - قراء كثيرون من مثل سننا، كما كانت ذات فائدة كبرى للمجتمع.
تولّت تحرير هذه المجلة مجموعة من المربين، كان على رأسها الأستاذ الأديب والمربي الشهير محمد سعيد العريان، وهو من رجال التربية الكبار، ومن الكتّاب البارزين، وقد قام بإدارة مجلة «سندباد» على أفضل وجه، وحافظ على مكانتها منذ بَدْءِ صدورها، إلى أن توقَّفَتْ.
وهو أديب مصري متعدد المواهب، ولد في سنة 1905م، وتوفي في سنة 1964م، وكان من خريجي كلية دار العلوم، ولأنه متفوق فقد جاء ترتيبه الأول على دفعته، واشتغل بعد تخرجه في سلك التعليم، ثم انتقل إلى ديوان وزارة المعارف المصرية، وأسهم في كثير من الأعمال التربوية والأدبية، إلى أن تَوَّج أعماله بإصدار مجلة سندباد في سنة 1952م.
وفي أثناء عمله في وزارة المعارف قام بإنشاء المكتبات المدرسية التي سرعان ما عمّت مدارس وطنه، ثم صارت من أهم ما تعنى به جهات التربية في الدول العربية الأخرى، فتجعله من أهم مراكز العمل في مدارسها.
كما اهتم بإنشاء المراكز الثقافية الخارجية، رغبة في التبادل الثقافي بين الشعوب مجال العمل المدرسي والثقافي العام.
وللأستاذ محمد سعيد العريان مؤلفات كثيرة، ومتنوعة، نذكر منها ما يلي:
- القصص القصيرة.
- السِّيَر والتراجم.
- تحقيق كتب التراث.
- المؤلفات الخاصة بالأطفال.
وقد سبق كلَّ ذلك إعدادٌ مهم لشخصية هذا الأديب، وتكوينه العلمي، حتى وصل إلى ما وصل إليه من مكانة مرموقة.
وكان ذلك من أهم ما لفت نظر دار المعارف بمصر إليه حين بحثها عن رئيس لتحرير مجلتها الوليدة، فوجدت فيه الرجل المنشود.
ومما أيّد هذا الاختيار ذلك الجهد الكبير الذي بذله الأستاذ العريان في مجال كتابة قصص الأطفال، فقد اشترك مع اثنين آخرين من زملائه في إصدار مجموعة قصصية صالحة للصغار تحت عنوان: «القصص المدرسية»، وكانت في ثلاثة وثلاثين كُتيِّباً يضم كل واحد منها حكاية مصورة، وقد كانت كلها من إصدار دار المعارف بمصر.
هذا وأعماله كثيرة استفاد بها الصغار والكبار.
ولقد تركت كل تلك الجهود التي بذلها الأستاذ ذكراً حميداً، وسمعة علمية وأدبية باهرة.
****
بدأ العدد الأول من مجلة «سندباد» بكلمة موجّهة إلى القراء، موضحة لأهداف المجلة ونظرتها إلى مستقبل عملها.
وجاء في هذه الكلمة: «إلى أصدقائي الأولاد، في جميع البلاد... أرسل خالص تحيتي، مع هذا العدد الأول من مجلتي... عفواً يا أصدقائي، بل هي مجلتكم أنتم! من أجلكم أصدرناها، لتتمتعوا بما فيها من قصص لطيفة، وحكايات ظريفة، ومغامرات عجيبة، ورحلات بعيدة وقريبة، وصور فريدة، وألعاب لذيذة ومفيدة، وفنون من التسلية جديدة. وإلى اللقاء. يا أصدقائي الأعزاء. في يوم الخميس من كل أسبوع».
وتكاد مجلة «سندباد» أن تكون هي المجلة الوحيدة الخاصة بالصغار عند صدورها، والوحيدة من نوعها من حيث تخصصها واختلاف موضوعاتها وكثرة ما تحتوي عليه من الحكايات والرسوم والمعلومات التاريخية والجغرافية والعلمية، والرسوم بأنواعها.
وهذه الأخيرة هي الرسوم التشكيلية التي تقدم لقراء المجلة كل جديد في هذا الشأن.
ولقد كان لا بد من تضمين أعدادها أحاديث عن السندباد المعروف الذي أشرنا إليه، منذ بداية مقالنا هذا. فتحت عنوان دائم هو «رحلات سندباد»؛ وردت عدة حلقات استمرت طوال مدة صدور المجلة، وكانت تروي كل شيء عن السندباد ورحلاته، بأسلوب رشيق، وبيان واضح، وخيال آسر، مع تصوير فنيٍّ ملون لكافة الأحداث الجارية.
وتُضاف أحاديث الرحلات إلى كثير من الحكايات القصيرة الأخرى، والألعاب، وكل ما يثير القراء، ويدفع بهم إلى الاستمرار في متابعة مجلتهم التي أحبوها بإفراط شديد، وتابعوا كلَّ أعدادها.
وضمّت مجلة «سندباد» إلى جانب ذلك نشاطاً اجتماعياً يقوم به عدد من قرائها فهم يتكونون من مجموعات صغيرة أُطْلِق عليها اسم: ندوة سندباد، وكانت كل ندوة من هذه الندوات تضم أعضاء يتكوّن عددهم من خمسة إلى سبعة أعضاء، وقد يزداد العدد قليلاً، وتتكون من فتيان وفتيات دون اختلاط بين الجنسين. وتزاول الندوات عدداً من الأنشطة الثقافية المختلفة.
وقد أُفرِدت للندوات صفحات من صفحات المجلة تُسْردُ فيها كافة ما يرد من أنباء هذه الندوات وأنشطتها المتَعَدِّدَة.
ولقد كان لهذا العمل الاجتماعي أثره في إقامة روابط قوية تجمع أبناء الوطن العربي، حيث انتقل الأمر إلى الاتصالات والمراسلات المباشرة بين الندوات في كل مكان بعد أن انتشرت في بلدان مختلفة وصار لها نشاط واسع.
ولقد استمرت «سندباد» في نشاطها المختلف في مجال النشر، وإنشاء الروابط بين قرائها، وتنويع الموضوعات التي تقدمها لقرائها عدداً بعد عدد آخر، مع تحسين مستمر، ونجاح مضطرد.
****
وهكذا نرى أن حُسْنَ اختيار فريق العمل في تحرير سندباد؛ والتنوع الواضح المدروس في كل ما نشر في أعدادها فأفاد قراءها من الأولاد والبنات، وأكسبتها شهرة كبيرة، وانتشاراً واسعاً في مصر وغيرها من بلدان الوطن العربي. ومن بلدان هذا الوطن دولة الكويت، حيث كنا ونحن صغار نسعى للحصول على أعدادها فور وصولها، كما أشرنا إلى ذلك سلفاً، حيث كنّا نجلس على عتبة مكتبة الطلبة في انتظار وصول صاحبها لكي نقوم بشراء العدد الجديد منه في صباح كل يوم خميس. فننال بذلك متعتنا في قراءة مجلتنا المفضلة.
ولقد أدى صدور مجلة «سندباد» بصفتها الأولى من نوعها، وبسبب قوة انتشارها وكثرة ما تقوم بتوزيعه من النسخ أثر مهم في هذا النوع من أنواع الصحافة الخاصة بالصغار، فوجدنا بعض بلاد العرب تصدر مجلات من هذا النوع، ولم تكن الكويت بعيدة عن هذا السياق، فقامت في سنة بإصدار مجلة مماثلة للأطفال على الطريقة التي انتهجتها مجلة «سندباد» المصرية.. وأطلقت المؤسسة الكويتية المصدرة اسم «سعد» على مجلتها هذه، عازمة على التأسِّي بما قامت به المجلة الرائدة.
ولقد كان رائد العمل في مجال النشر للأطفال في الكويت هو المرحوم عبدالعزيز فهد المساعيد، فهو الذي أصدر مجلة «سعد»، وكان قد بدأ في الكويت بإصدار جريدة «الرأي العام» السياسية اليومية، وألحق بها عدداً من المطبوعات السيّارة، منها مجلة «النهضة» التي كانت ثقافية مصورة.
كانت مجلة «سعد» تصدر في أول كل شهر، ولكن ذلك لم يكن بصورة منتظمة، وكان سعر العدد نصف دينار، وكانت السيدة منال المساعيد هي التي تشغل مَنْصَبْ رئاسة تحريرها.
وتتكون مجلة «سعد» من أبواب متعددة، وقصص ملونة بألوان جميلة، وفكاهات ونوادر عديدة، وفيها كل ما يغري الناشئ بمتابعة قراءتها والحصول على كل عدد جديد منها، ومما تهم الإشارة إليه أن كثيراً من الحكايات يعتمد على شخصيات ثابتة تأتي على رأسها شخصية «سعد»، وأن إخراج كل عدد إنما يتم بجهد كبير من عدد من الفنانين المبدعين الذين تلفت أعمالهم الأنظار.
وعبدالعزيز فهد المساعيد من العاملين القدماء في مجال التجارة، ثم في مجال الصحابة والسياسة.
ولد في سنة 1915م، ثم توفي في سنة 2001م، وكانت حياته مجال عمل مستمر كان أبرزه مشاركته في عضوية مجلس الأمة في سنة 1971م، وما بعدها.
وعندما توفي في السنة التي ذكرناها ابنه مجلس الوزراء الكويتي رسمياً، وذكر أعماله المختلفة التي بدأها منذ سنة 1938م.
ثم بعد أن عمل في الصحافة وقام بنشر جريدته «الرأي العام»، وما لحقها من مجلات.
****
صدرت مجلة سندباد في وقت كان الصغار في أَمسِّ الحاجة إلى قراءة مثلها، وقد أصدرتها دار المعارف بمصر، وهي من أشهر دور النشر المصرية، بل والعربية، وأكثرها اعتناء بما كانت تصدره، كما كانت تستقطب عدداً من كبار الكتاب، فينتشر إنتاجهم بأنواعه، وتتولى توزيعه في مراكز متعددة في مصر وخارجها، ولذا... فلم يكن من المستغرب أن تتولى هذه الدار العريقة نشر مجلة الأطفال هذه، وتكليف عدد من الكتاب والفنانين بمهمة إصدارها.
وقد كان اهتمام دار المعارف الكبير بمجلة «سندباد» سبباً في نجاحها، واشتهارها وزيادة أعداد قرائها من الفتيان في كل مكان.
وقد اختارت هذه الدار اسم «سندباد» لمجلتها؛ لأنه كان اسماً رائجاً لقصة شعبية منتشرة بين الصغار والكبار، ولذا فإن الاسم عندما أعلن لم يكن مستغرباً، بل لقد كان معروفاً لدى الجميع.
ولقد وردت حكايات «سندباد» في قصص ألف ليلة وليلة الشهيرة، وفي غيرها من ألوان القصص الشعبي، وترجمت إلى عدة لغات، كما وردت في بعض المطبوعات الصغيرة مجتزأة من أصولها، وكان تداول هذه الكتيبات منتشراً في الكويت وفي غيرها من بلدان العرب.
ولعل من المهم هنا أن نقدم نموذجين من الأعمال التي كانت تُنشر في مجلة «سندباد»، أولها هو الحلقة الأولى من حلقات: «رحلات سندباد» التي كانت تنشر باستمرار بمعدل حلقة واحدة لكل عدد، وهذه التي نقدمها هنا «نموذجاً» هي التي صدرت في العدد الأول من المجلة، وكان فحواها ما يلي:
قال «سندباد»:
كان أول كتاب أهدته إليّ عمتي مشيرة، حين تعلمت القراءة والكتابة، هو كتاب «السندباد البحري»، ولم أكن أعلم أن في الدنيا «سندباداً» غيري، ولذلك ظننت أن هذا «السندباد»، المطبوع اسمه على الكتاب، هو أنا، ولكن لماذا يسمونني «السندباد البحري». وأنا لم أر البحر طول حياتي؟
حيّرني هذا السؤال برهة، فلما لم أستطع جواباً عنه، ذهبت إلى عمتي أسألها: لماذا يسمونني السندباد البحري يا عمتي؟
فضحكت عمتي ضحكاً شديداً، وقالت لي: أظننت يا بني أنك أنت ذلك السندباد؟ ما أبعد ظنك! أم حسبت أنه لم يأت إلى هذه الدنيا سندباد غيرك؟ لقد كان جدك اسمه «السندباد»: وكان له رحلات مشهورة في البحر، اطلع فيها على عجائب وغرائب، واجتاز فيها كثيراً من الأهوال والمخاطر، ولذلك اشتهر باسم السندباد البحري، قلت لها: إذن فذلك السندباد البحري هو جدي؟
قالت: نعم يا بني، وفي هذا الكتاب شيء من أخبار رحلاته ومغامراته، وهي رحلات عجيبة، ومغامرات رهيبة، لم يرى مثلها راء، ولم يسمع مثلها سامع، على أن أباك أيضاً يا سندباد، كان رحالة مشهوراً كذلك، وكان له مغامرات في البر. أشد هولاً من مغامرات جدك في البحر، ولو أنه كان معنا الآن، لحدثك عن رحلاته ومغامراته حديثاً عجيباً... رأه! ولكن أين هو أبوك الآن: لقد ذهب في رحلة طويلة، منذ سنين بعيدة. فلم نقف له من يومئذ على خبر، أو نعثر على أثر.
وسكتت عمتي مشيرة، واحتبس صوتها. وتغرغرت عيناها بالدموع، فلم تستطع الاستمرار في الحديث.
وسمعتُ صوت أختي «قمر زاد»، وهي جالسة بجانب عمتي، تقول في تأثر: لماذا أخبرتيه بذلك يا عمة؟ إنه لم يزل صغيراً لا يقوى على احتمال الحزن!
ثم انحدرت من عينيها الدموع، وعلا صوتها بالبكاء... وشعرتُ أنا أيضاً بالدموع تترقرق في عيني، وأردت أن أبكي، ولكني تصبرت، ونظرت إلى أختي الباكية. ثم إلى عمتي الحزينة، وقلت في شجاعة:
ماذا أرى؟ وماذا أسمع؟ أي شيء يبكي يا قمر؟ ولماذا قطعت الحديث يا عمتي العزيزة؟ إنني أريد أن أعرف ماذا كان من أمر أبي!
****
كانت هذه أول مرة في حياتي أسمع فيها كلمة «أبي»، وكأني لم أكن أعلم قبل اليوم، أن لي أباً مثل سائر الأولاد، فلما سمعت ذلك الكلام من عمتي، اشتقت أن أعرف المزيد من أخبار أبي، ذاك الذي لم أره طول حياتي، ولم يرني، فما زلت أحتال على عمتي حتى أنبأتني...
لقد كان أبي تاجراً كبيراً من تجار الغلات الزراعية، يتنقل في مواسم الحصاد، بين البلاد المختلفة، يشتري من الفلاحين ما تنتجه أراضيهم من القمح والشعير، أو من القطن والذرة، أو من البلح والعجوة والزيتون، يدفع ثمن ذلك كله نقداً، لا يؤخر لأحد درهماً ولا ديناراً، ثم يحمل ما اشترى من هذه الغلات على ظهور الجمال في البادية، أو في المراكب الشراعية إذا كان قريباً من النهر.
وكان في كل سفرة من سفراته، يحمل معه قدراً كبيراً من المال، ليؤديه ثمناً لمشترياته، فإذا نفد ما معه من المال، عاد إلى المدينة ينتظر ما تحمل إليه الجمال، أو المراكب، أو القوافل، من المشتريات التي أدى ثمنها، ليتجر بها في المدينة.
ففي موسم من المواسم - وكان ذلك منذ بضع عشرة سنة - خرج أبي إلى البادية في رحلة من هذه الرحلات التجارية، وكان في جيبه بضعة آلاف من الدنانير، وواعد أمي وعمتي أن يعود بعد بضعة أسابيع، ولكنه لم يعد، ومضى شهر بعد شهر، ولم يعثر له أحد على أثر، أو يقف له على خبر.
ثم مضى شهر ثالث، ووفد على المدينة قطار من الإبل، عليه حمولة من البضائع، تساوى بضع مئات من الدنانير، باسم أبي، ولكن أبي لم يكن في القافلة، ولم يكن أحد في القافلة يعرف أين هو...
وكنت في تلك الأثناء جنيناً في بطن أمي. وكانت أمي تنتظر أن يعود أبي قبل مولدي، ولكني ولدت ولم يرني، ولم أره، ولم تره أمي أيضاً، ولم تراه بعد، فقد ماتت أمي بعد مولدي بأيام، حزناً على فراق أبي، وهكذا نشأت يتيماً، لم أذق عطف الأبوة، ولا حنان الأمومة، وليس لي من أهل ولا صديق، غير أختي قمر زاد، وعمتي مشيرة، وصاحبي وجاري صفوان، ثم كلبي نمرود...
وكنت سعيداً بهذه الأسرة المخلصة، لا أفكر في شيء من متاعب الحياة، ولا أحمل هماً من هموم الدنيا، حتى كان اليوم الذي حدثتني فيه عمتي بهذه القصة، فأخذت من ذلك اليوم أفكر بعقل جديد، وقلب جديد...
وأخذتُ أسأل نفسي: يا ترى، أوالدي حي أم ميت؟ وكنت في كل مرة، أسمع هاتفاً يهتف في قلبي: إنه حي، حي، ولا بد أن يعود إليك، أو تصل أنت إليه، فيراك، وتراه، ويجتمع الشمل...!
أين هو إذن؟ وماذا منعه من العودة إلينا على طول السنين؟ أهو سجين في جُب؟ أهو تائه في صحراء؟ أهو منقطع في جزيرة نائية؟
لست أدري، ولكني مع ذلك كنت موقناً يقيناً لا شك فيه، أنه حي، وأنني لا بد واصل إليه...
وذات يوم، جلست أفكر في أمري، وأمر أبي، وهتف بي ذلك الهاتف: إنه حي، حي، ولا بد أن... وأجمعت نيتي على أمر... وأخذت أستعد لأول رحلة... إلى أين؟
لا أدري؟
ولكنني ذاهب أبحث عن أبي؟
«يا روح السندباد الكبير...
امنحيني العزم والقوة، وإلى الأمام!»
«إلى الأمام يا سندباد!»
وثاني ما نختاره من مجلة «سندباد» حكاية كانت ننشر فيها تحت عنوان: «كان يا ما كان»، وتكون الحكاية متنوعة من كل عدد من الأعداد الصادرة، أما الحكاية فهي «جزيرة اللؤلؤ»، وتأتي متسلسلة في النشر ملونة ومتنوعة وموضوعها مغامرات بحار في دنيا الغوص على اللؤلؤ.
وهذه هي الحلقة الأولى منها:
«كان عطية ولداً يتيماً، فقد مات أبوه، وماتت أمه، ولم يتركا له شيئاً يعيش منه، ولم يكن له أحد يعطف عليه. غير عمه نعمان.
وكان عمه نعمان صياداً فقيراً. يصطاد السمك من البحر، ويذهب به إلى السوق فيبيعه. وكان يسكن مع ابنته وزوجته في دار صغيرة، قريبة من شاطئ البحر.
عاش عطية في بيت عمه، منذ مات أبوه، فكان عمه يحبه ويعطف عليه. ولكن زوجة عمه كانت امرأة قاسية. تعامله بعنف، وتخاطبه بخشونة، وتكلفه من العمل ما لا يطيق، وكان عطية يشعر بقسوتها عليه، وكراهتها له، فيتحمل ويصبر، ولا يجد أحداً يشكو إليه همه، غير بنت عمه خديجة.
وكانت خديجة بنتاً لطيفة، طيبة القلب، رقيقة الشعور، فكانت تلاطفه وتواسيه، حتى يذهب همه، وينشرح صدره.
وكان عطية لا يزال غلاماً صغيراً، لين العود، لا يقوى على العمل، ولكن زوجة عمه - مع ذلك - أشارت على زوجها نعمان، أن يشتري له شبكة، ويشيعه إلى البحر ليصطاد، ويساعده على كسب العيش. ومع أنه كان صغير السن. قليل المعرفة، لم يتمرن على الصيد بعد، فإنه - طاعة لزوجة عمه - حمل شبكته على كتفه، وذهب إلى البحر ليصطاد.
كان الجو حاراً، والريح ساكنة، والبحر هادئاً، فوقف عطية ينظر إلى البحر برهة، فراقه هدوء الماء، وسكون الموج، وبدا له أن يسبح قليلاً لينشط، فوضع شبكته على الشط، وخلع جلبابه، ونزل في الماء، وكان ماهراً في السباحة، فأخذ يسبح ويسبح، حتى ابتعد الشاطئ بعداً كبيراً، ثم خرج من الماء يبحث عن جلبابه، فلم يجده، فأخذ ينظر يميناً وشمالاً، فلم ير حوله أحداً، فاغتاظ غيظاً شديداً. وجلس على الشط مهموماً، يلعن ذلك اللص الخبيث، الذي نكده ونغص عليه، ثم حمل شبكته، وروح إلى البيت خائفاً، وقابلته زوجة عمه، فلم تعد تعلم بما حدث، حتى انهالت عليه ضرباً ولكماً، فلم يخلصه منها إلا عمه.
وفي صباح اليوم التالي، أيقظته زوجة عمه مبكراً، وأمرته أن يذهب إلى البحر، وحذرته أن يرجع إليها خائباً، كما رجع أمس، فحمل شبكته، وذهب إلى البحر. وكان الجو عاصفاً، والموج هائجاً، فخاف أن ينزل في ذلك الوقت، وجلس ينتظر على الشاطئ حتى يهدأ البحر، وأخذ يلعب في الرمل، ويخرج منه أنواعاً من الودع والمحار والصدف، ثم جمع من هذه الأنواع أحسنها منظراً، وألطفها شكلاً، وأخذ يثقبها ويراف بينها، حتى نظم منها عقداً جميلاً، فوضعه في مخلاته، ليقدمه هدية إلى ابنة عمه. فلم يكد ينتهي من نظم ذلك العقد، حتى كان الوقت قد فات. فعاد إلى البيت ولم يصطد سمكة واحدة.
فلما رأته زوجة عمه، سألته عما صنع في يومه، وخطفت المخلاة من يده ونظرت فيها، فلم تجد غير ذلك العقد الذي نظمه من الودع، فرمت المخلاة، وانهالت عليه ضرباً، فلم يخلصه منها في هذه المرة، إلا بنت عمه خديجة، وانزوى عطية في ركن من أركان البيت يبكي، فجاءت إليه خديجة تسأله عما صنع، فحكى لها حكاية العقد الذي ضيع فيه يومه، فتناولته بيدها، ونظرت فيه، فأعجبها شكله ونظمه، فشكرته على هديته الجميلة، وأخذت تلاطفه، حتى انبسط وزال ما به من الهم.
فلما كان اليوم الثالث، استيقظ عطية مبكراً، وحمل الشبكة والمخلاة، وذهب إلى البحر، وكان على طول الطريق يدعو الله أن يرزقه ويوفقه.
وكان الجو صافياً، والهواء معتدلاً، والأمواج تمس الشاطئ في هدوء، ثم ترتد عنه في لين ورفق، فعزم على ألا يخلع ثيابه على الشاطئ، ولا يلعب في الرمل، وأن يبذل جهده في ذلك اليوم، لعل الله أن يرزقه رزقاً طيباً، يبيض وجهه، ويرضي زوجة عمه، ثم نزل إلى البحر، وجمع أطراف الشبكة في يديه، وقال: بسم الله الرحمن الرحيم! وطرح الشبكة في الماء، وصبر عليها برهة، ثم شد الحبل قليلاً، فوجد الشبكة ثقيلة، ففرح واستبشر، وأيقن أنه صيد ثمين. فاستجمع قوته، ولف الحبل على يديه، وثبت قدميه في الأرض، وشد بكل قوته، فانقطعت الشبكة وتمزقت، لأن الشبكة كانت ناشبة في صخرة، وهو يظنها ممتلئة بالسمك.
نظر عطية إلى الشبكة الممزقة، فامتلأ بالهم والغم، وتذكر زوجة عمه القاسية، وقدّر ما ينتظره من عقاب».
ولقد حصرنا في اختيار المثالين، ثم تقديمهما هنا على أن يكون ما نقوم بتقديمه دالاً على أسلوب الكتابة في المجلة واحتواء كل ما يكتب على ما يتفق، ومستوى أذواق الفتيان ومقدرتهم القرائية، وتفهم لما يقرأون.
وليس خفياً بعد كل الذي ذكرناه عن كافة ما كان.
وغني عن البيان، أننا قد ذكرنا كثيراً من تفصيلات القول في محتويات كل عدد من أعداد هذه المجلة الناجحة، وأشرنا إلى جودة إخراجها وما تحتويه من معلومات متنوعة تفتح أذهان قرائها على كثير من المعلومات، إضافة إلى مجموعة باهرة من الحكايات القصيرة والفكاهات والنوادر والرسوم الملونة المختلفة التي تسر كافة من تقع عينه على صفحاتها.
****
وبعد مطلق القول عن «سندباد» و«سعد»، المجلتين اللتين كانتا رمزاً للمجلات الخاصة بالصغار، وبعد أن قدمنا وصفاً كاملاً لهما، ونموذجين مما نُشر في «سندباد»، فقد جاء دورنا لتقديم فقرة من فقرات مجلة «سعد»، وهي بعنوان: «موسى وأولاده الثلاثة»، وهي بقلم طارق البكري، وقد نشرت في شهر يونيو لسنة 1999م:
«النافورات أشكالها متعددة، وأحجامها كبيرة ومتنوعة، بعضها يرتفع وينخفض وفقاً لارتفاع وانخفاض الموسيقى المصاحبة له، وبعضها ينطلق بألوان لا حصر لها، وبعضها يهدر في دوائر متداخلة في الماء.. إلى ذلك.
فهل تعلمون يا أصدقائي أنه ومنذ نحو ألف عام من الآن، قام بعض نوابغ المسلمين وهم أبناء رجل واحد اسمه موسى بن شاكر، بتصميم ورسم وصنع عشرات النماذج من النافورات التي جملوا بها القصور ونالوا من وراء ذلك مالاً وفيراً.
وموسى بن شاكر نابغة ظهر في عصر المأمون، حيث برع وأبناؤه في الرياضيات، وخاصة في الهندسة والفلك والفلسفة.
أما أبناؤه فكانوا ثلاثة وهم: أبو جعفر محمد، وأحمد والحسن، وكانوا جميعاً مشغوفين بالدراسة وتحصيل العلم، فأنفقوا جانباً كبيراً من ثروتهم في اقتناء الكتب التي كانوا يجلبونها من بلاد الروم، وكان يدفعون الرواتب للكتبة، فكانت تصل رواتب الكتبة لأكثر من 500 دينار شهرياً، وهو مبلغ كبير في وقته.
وقد كان أبو جعفر أكثر إخوته علماً في الفلك وفي الهندسة وفي المنطق، أما أحمد فقد كان أقل من أخيه الأكبر لكنه كان يفوقه في علم الحيل وهو الميكانيكا، وكان الحسن أبرعهم وأنبغهم في علم الهندسة.
ولأبناء موسى عدد من الكتب، منها كتاب الحيل، وهو كتاب مزين بالرسوم التوضيحية عن الجرار «آنية للماء»، والأواني والفوارات.
ولم تكن هذه الحيل للتسلية فقط، أو لإظهار المقدرة العملية، بل كانت للضرورة أيضاً، لقد كثرت الحاجة إلى مثل هذه الأواني في المساجد والمنازل وأماكن الاجتماع للشرب والوضوء وحفظ السوائل ونقلها.
وقد صنعوا فوارة على هيئة زهرة السوسن، وفي الإمكان أن يخرج الماء منها كهيئة الترس.
ووضع أبناء موسى بن شاكر أيضاً إبريقاً يأخذه الغلام فيوضئ منه من أحب ويمنع ذلك عمّن يريد فلا يصب على يديه أي شيء من الماء، مدعياً بأن الماء لا ينزل إلا للطيبين الصالحين، وقد استخدموا ضغط الهواء وتأثيره على الماء في نزوله وعدم نزوله من الإبريق.
ويصنع أبناء موسى أواني لغسل الخضراوات تصدر صفيراً إذا غمست في الماء، وتصدر صفيراً أيضاً إذا رفعت منه، وصنعوا سراجاً يخرج الفتيل لنفسه ويصب الزيت لنفسه، وكل من يراه يظن أن النار لا تأكل الفتيل والحقيقة أن كل ذلك يتم بطريقة أوتوماتيكية ذاتية دون تدخل.
وصنع أبناء موسى بن شاكر ميزاناً دقيقاً لوزن الذهب، وصفوا طريقة صنعه في كتاب «القرسطون» أي الميزان، وكتاب «وصف الآلة» التي ترمز بنفسها، ولقد شهد علماء الغرب لموسى بن شاكر وأولاده الثلاثة بأثرهم الواضح في علوم الرياضيات والفلك والفلسفة خلال ذلك العصر الذهبي الذي حمل فيه المسلمون لواء العلم فترجموه وراجعوه وازادوا فيه، حيث التقط الغرب تلك الجوهرة وانطلق بها، بينما نحن خسرنا الجوهرة بعد أن تخلينا عنها وتخلفنا عن ركب الحضارة».
****
هذه معلومات عامة عن بدايات صحافة الأطفال العربية وما تعلق بها من موضوع الحكايات القديمة، وإلى اللقاء في الجزء الثاني من هذا المقال.