أطلقت قوى عدة اشارات استهجان من العمل الذي ينتهجه البرلمان الحالي حينما كرست الأغلبية النيابية فيه خطا مميزا عن سابقيه بتشكيل لجنة تلو الأخرى للتحقيق في قضايا مثارة على سطح الأحداث ولقيت اهتماما شعبيا واسعا وتساؤلات أعمق عن ظروفها وموجباتها وأوجه الخلل فيها وذهب بعضهم الى حد التندر في ان مجلس الأمة استحال مخفر الأمة بسبب عدد اللجان التي شكلها في غضون عمره الذي لم يتجاوز بعد الأشهر الأربعة وكأنهم يستكثرون على أعضاء البرلمان القيام بواجبهم الذي حدده لهم الدستور.
في العمل السياسي لا يستهجن على الأغلبية الالتزام ببرنامجها الانتخابي الذي وعدت به ناخبيها وكان مرشحو الأغلبية الحالية قد أقاموا صلب حملاتهم الانتخابية على مكافحة الفساد الذي يرون انه أصبح علامة فارقة في التاريخ السياسي للكويت بعدما انتشر وعم ولم يعد مرفقا من مرافق الحكومة يسلم من بعض تأثيراته أو ان يقع مسؤولوه تحت دائرة المساءلة القانونية لحجم الهدر المالي الذي ترزح تحته تلك المرافق سواء عن تقصد رغبة في الاثراء السريع أو بسبب أخطاء ادارية وقرارات قاصرة ناتجة عن عدم الكفاءة أو اللامبالاة.
منذ سنوات والكل دون استحياء يردد ان فساد البلدية ما تشيله البعارين دون ان يستطيع أحد ان يضع أصبعه على الجرح النازف أو ان يشير الى مسببات هذا الفساد أو أركانه أو القائمين عليه.
ومضت سنون وتلتها سنون دون ان يقدم أحد للمحاكمة أو ان يخضع مسؤول فيها الى تحقيق اداري أو جنائي وهي حالة ربما أثرت في السياق العام للمجتمع بحيث أصبح الفساد لغة طاغية يتحدث بها الجميع أو يحاول الكل التسابق على تعلمها واتقان مفرداتها.
ولئن كان فساد البلدية يعجز البعارين فان المشاريع المليارية في مرافق الدولة المختلفة تشير الى الفساد يحتاج الى كونتينيرات ضخمة لحمل تفاصيله المتراكمة بعضها على بعض أو كما قال مولانا مظفر النواب في احدى روائعه الوقحة: أبناء....... لا أستثني منكم أحدا.
قبل أسابيع قليلة استضافت الكويت فريق نادي ريال مدريد واعتقد الجميع ان الفرصة أصبحت سانحة لكي يطلق وطننا تحفته المعمارية ستاد جابر الدولي الى آفاق الاقليمية على الأقل باعتبار انه استنزف أموالا طائلة من المال العام لانجازه غير ان ذلك لم يكن ضمن أجندة المسؤولين ولم يكن أيضا ضمن سياق اهتمامهم السؤال عن السبب في عدم افتتاح الستاد بشكل رسمي حتى الآن رغم انتهاء العمل به منذ سنوات.
ومنذ سنوات أيضا تجاوزت ان لم تخني الذاكرة السبع أو الثمان أقر البرلمان قانون انشاء المدينة الجامعية الا ان تصريح قيادي تربوي ان العمل لبنائها ربما سيستمر فيها سنوات طوال أخرى وأن الدراسة فيها سوف لن تبدأ قبل ست سنوات من الآن ورغم ان النائب السابق د. حسن جوهر أعلن انه سلم مسؤولا حكوميا سابق ملفا متورما عن تجاوزات فيها الا ان ذلك لم يكن يستدعي وفق النهج الكويتي أي تساؤل عن سبب هذا التأخر في انجازها وهل في الأمر شبهة تنفع أو تلكؤ أو أي شيء آخر ورغم ان عشرات كتبوا مقارنين بين جامعة الملك عبدالله التي انشئت في غضون ثلاث سنوات فقط رغم حجم الجامعة الكبير ومرافقها المتعددة وبين السنوات الطوال التي استهلكتها جامعتنا الموعودة لترى النور الا ان أيا من المسؤولين الحكوميين لم ير في الأمر ما يحتاج فتح تحقيق فيه فالهون أبرك ما يكون وطالما اننا في بحبوحة عيش ليس من الحكمة اقلاق راحة المسؤولين في الجامعة بالسؤال عن ذلك التأخير.
لا يرغب مسؤولونا في تقصي وضع المشاريع المعطلة وكأنهم رضوا بأنه ليس بالامكان أفضل مما كان وأن الزمن كفيل دوما بانجاز ما يتمنونه دون ان يؤدي ذلك الى تغيير المعادلة الافتراضية في ان يربح الجميع ويخسر الوطن الى قناعة في ضرورة ان يربح الوطن خسر من خسر وتضرر من تضرر فالدولة هي الباقية فيما الأفراد زائلون.
وربما من هذا المنطلق العبثي استكثر تقليديو المجتمع انشغال قوى نيابية بالسؤال والتحقيق في مشاريع فاحت رائحة التربح غير المشروع منها أو رسمت أكثر من علامة استفهام على القائمين عليها اذ اعتبر ذلك بمثابة تصفية خلافات سياسية وتكريس لنهج الانتقام السياسي دون ان يتساءل وطني مخلص عن كم الملاحظات التي يسجلها ديوان المحاسبة سنويا على الجهات الحكومية أو تلك التي يضمنها تقاريره الوقتية عن قضايا تحال اليه لتتبع أوجه (الخمال) فيها.
أليس غريبا ان يصف أحد المعلقين النواب الذين كرسوا حياتهم لفضح الفساد بأنهم نواطير المال العام تقليلا من حجم ما يقومون به من عمل في حين يطالب بالاهتمام أكثر بالقيم الديموقراطية المتمثلة في اعلاء حرية التعبير متناسيا ان الدول التي ينتشر فيها الفساد لا يكون ممكنا توطين حرية التعبير بها وذلك ان من سيدفع فقط هو من سيكون ممسكا بتفاصيل النشر والتعبير.
أليس غريبا ان يتناسى هؤلاء ان نهج الفساد يقضي على كل القيم الاجتماعية ويعلي من الانتهازية واستغلال النفوذ ويقسم المجتمع الى فئتين : منتفعة تعيش على موائد المفسدين والمتنفذين، ومنبوذة رفضت الاستسلام والخنوع لهؤلاء فحوربت في مورد رزقها ولم يعد بالامكان ان تعتلي مواقع القيادة لأن هذه المواقع باتت محكومة بمعادلة الولاء وليس الكفاءة.
نهج الفساد يخرب الديموقراطية فلا يعود النائب ممثلا للأمة وانما ممثلا لولي نعمته الذي أغدق عليه الأموال ليصير الى ما صار اليه ونهج الفساد هو من يخرب الذمم وينشر الرشى فلا يعود ممكنا انجاز معاملة ما لم يدفع صاحبها المقسوم والمعلوم لهذا المسؤول أو لذلك القيادي ولا يعود الناخب حريصا على اختيار نائب وطني وانما يبحث عمن يدفع له أكثر أو من ينجز له معاملة غير قانونية أو يعفيه باستثناء غير قانوني من التزام واجب عليه.
محاربة نهج الفساد هي من سيخلق بيئة ديموقراطية حقيقية والتقليل من شأن ما يسلكه النواب في محاربة هذا النهج بلجان التحقيق المتعددة وبمقترحات القوانين التي تؤسس لتشريعات تضيق مساحة المفسدين وتحاصر نفوذهم.
ان التقليل من حجم العمل البرلماني ووصفه بأنه مضيعة للوقت انما يندرج ضمن ما يعمل نهج الفساد على تكريسه في المجتمع بأن المحاسبة والتدقيق تصفية حساب وخصومات سياسية ليخرجها من أصلها ويغلفها بطابع الشخصانية حتى تضيع الصقلة ويعيث المفسدون خرابا في المجتمع وتمزيقا لقيمه وطبائع أفراده.