loader

عربيات ودوليات

تصغير الخطتكبير الخط العودة أرسل  ارسل إحفظ  إحفظ إطبع  إطبع PdfPdf

وقفة

الديموقراطية تتراجع في الغرب وتتألق في إسرائيل!


بقرار من الأمم المتحدة وفي الخامس عشر من شهر سبتمبر في كل عام يحتفل العالم بـ «اليوم الدولي للديموقراطية»، والهدف من هذا الاحتفال هو اتاحة الفرصة لبني البشر لاستعراض حالة الديموقراطية في اوطانهم.
والديموقراطية، بحسب مفردات منظمة الأمم المتحدة، هي نظام يوفر «البيئة الطبيعية اللازمة لحماية حقوق الانسان واعمالها على نحو يتسم بالكفاءة. وهذه القيم واردة في الاعلان العالمي لحقوق الانسان، كما انها مذكورة بالتفصيل في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الذي يكرس مجموعة من حقوق الانسان والحريات المدنية من شأنها ان تساند الديموقراطيات الهادفة»، ولاحظوا كلمة «الهادفة».
وفي بداية هذا العام صدرت قوائم «مؤشر الديموقراطية في العالم لسنة 2018» التي وضعت 16 من بين 20 دولة عربية، في قاع هذه القوائم، وصنفتها على انها دول غير ديموقراطية وأنها «شمولية وسلطوية»، في حين، بل والأدهى والأمَرُّ هو ان اسرائيل، الدولة القمعية الموغلة في انتهاك الحريات وحقوق الانسان، صُنفت على انها دولة ديموقراطية حلت الأولى بلا منازع في منطقة الشرق الأوسط وبواقع 30 ضمن الترتيب العالمي من بين 167 دولة رصدها المؤشر، متقدمة بذلك على دول مثل بلجيكا وايطاليا والهند، مع العلم ان الجيش الاسرائيلي قتل في العام نفسه (2018) ما مجموعه 295 فلسطينياً اعزل، ممن يبحثون عن ادنى مستويات الحرية والعدالة والكرامة الانسانية، وأُصيبَ اكثر من 29 ألف فلسطيني آخر بجروح خلال الفترة نفسها، كما هدمت السلطات الاسرائيلية او صادرت في العام نفسه 459 مبنًى يعود للفلسطينيين في جميع انحاء الضفة الغربية، وواصلت اسرائيل حصارها البري والبحري والجوي الذي تفرضه على قطاع غزة بحجة المخاوف الأمنية، وجرى تحديد نحو 1.3 مليون من الفلسطينيين في قطاع غزة، او 68% من سكانه، على انهم يعانون من انعدام الأمن الغذائي في العام 2018 وهو العام الذي صُنفت فيه اسرائيل على انها الدولة الديموقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط!
من ناحية اخرى، وفي الدول الغربية اساساً وعلى مستوى العالم بأسره بدأت الديموقراطية، بمفهومها او بنسختها الغربية، تفقد بريقها وجاذبيتها وتتراجع امام صراع قوى المجتمعات وتحت ضربات الموجات الشعبوية والوطنية اليمينية المتطرفة والعصبيات القومية والدينية.
واذا كانت الديموقراطية في الغرب، نظرياً ومثالياً تعني ذلك المفهوم القائم على ضمان الحريات السياسية والمدنية، ونظام حكم يحترم التعددية وتداول السلطة سلمياً، ويحقق العدل والمساواة بين الجميع، واذا كانت من اهم مقوماتها الانفتاح والتسامح الديني والثقافي؛ فان الديموقراطية في الغرب تبدو الآن عارية وعاجزة عن صون وتحقيق جوهرها، وغير قادرة على مواجهة المستجدات والتحديات التي اصبحت تحاصرها.
ثلاثة عناصر او تحديات اساسية هددت الديموقراطية في الغرب وحاصرتها؛ اولها العولمة التي ادت الى اثارة خوف المجتمعات الغربية من الذوبان، وأدت الى تراجع الطبقة الوسطى فيها، وهي القاعدة والركيزة الأساسية للنظام الديموقراطي، الى جانب الأزمات التي عصفت بهذه الدول كالأزمة المالية العالمية لعام 2008، وأزمات الديون والبطالة وغيرها، مثل هذه الأزمات والتطورات زعزعت وهزت بلا شك اركان هذه الدول وأحدثت تصدعاً في اسس وقيم مجتمعاتها.
التحدي الثاني كان وما يزال النزوح والهجرة الى الغرب التي ادت الى تغيير في ديموغرافية او التركيبة السكانية لمجتمعات الدول الغربية، والى انتشار البطالة والى القلق والخوف من ضياع الهوية الوطنية والهوية العرقية والهوية العقائدية؛ مما ادى بدوره الى نمو ظاهرة الاسلاموفوبيا وارتفاع موجة معاداة المهاجرين.
التحدي الثالث والأكبر والأخطر هو الارهاب الذي ارعب وهدد المجتمعات الغربية وخلق حالة من الهلع والخوف على الأرواح والممتلكات والمكتسبات.
هذه التحديات انتجت الاحساس بالخوف وعدم الأمان في المجتمعات الغربية وأدت الى نمو التيارات والحركات اليمينية المتطرفة، وكشفت عن عدم قدرة او عجز النظام الديموقراطي وضعف فاعليته وكفاءته في مواجهة هذه التحديات والتصدي لها، فأصبحت الحاجة ملحة ومفروضة لتوفير الأمن والحماية للمجتمعات والذي تطلب بدوره التضييق على الحقوق والحريات العامة وهي العمود الفقري للديموقراطية.
فصارت الدول الديموقراطية في الغرب وغيرها تجاهر وتسعى وتؤكد الحاجة الى تعاظم دور الدولة الأمني ضمن قوانين تكبح حرية التعبير عن الرأي وتعطي الأجهزة الأمنية في الدولة الحق في الحصول على المعلومة وتضييق الحريات الشخصية عموماً كالقوانين التي اقرت في اعقاب تفجيرات «11 سبتمبر» عندما تم تشريع مراقبة وتسجيل الاتصالات الشخصية والمعاملات الالكترونية الى جانب منع التسريبات الحكومية وملاحقة مصادر التقارير الاعلامية ومحاكمتها، ومتابعة المواقع الالكترونية المعنية بنشر الوثائق السرية مثل موقع «ويكيليكس»، وازدياد القيود المفروضة على حرية النشر الالكتروني من خلال حظر المواقع والمعلومات وملاحقة الناشرين ومعاقبتهم.
وأمام اعين حكومات الدول المتطورة والديموقراطية تنمو وتتسع الآن فيها تجارة وتوزيع برامج المراقبة الالكترونية وتطبيقاتها حتى الصوتية منها والتي يتم استخدامها في هذه الدول وتصديرها للخارج دون قيد او شرط، ويتم في الغرب وفي الدول الديموقراطية الأخرى وغيرها رصد ومراقبة توجهات وميول المواطنين عموماً باستخدام الخوارزميات الحاسوبية هدفها الظاهر اغراض اقتصادية وتجارية، وفي الواقع اغراض استخباراتية وأمنية، منها ملاحقة وتعقب الأفراد المراقبين او المشكوك فيهم.
ولطالما تعرضت الدول العربية لضغوط متزايدة وصلت احياناً الى حد التهديد والابتزاز من قبل الدول الغربية ذاتها ومن قوى ومنظمات دولية تابعة لها كانت تحاول ان تدفعها او بالأحرى ان تفرض عليها تبني النظام الديموقراطي بنسخته الغربية المتمحورة حول الحرية المطلقة التي لا حدود لها الا عندما تصطدم بحرية الآخرين.
هذه الضغوط بدأت بالانحسار في الفترة الأخيرة، وقد كانت دولنا وحكوماتنا تعمل على مقاومتها والصد عنها، وفي احسن الأحوال مجاراتها شكلياً او الالتفاف حولها، وربما تكون معذورة او محقة في ذلك، خصوصا بعد ان اصبحت اسرائيل من نجوم الديموقراطية كما رأينا، وبعد ان بدأ النظام الديموقراطي في الغرب، كما قلنا، يفرز قيحه وصديده ويتراجع وتتم محاصرته في معاقله المحكمة، وضربه في صميمه، وهي الحريات الشخصية وحرية التعبير التي تعتبر اعمدة المبادئ والقيم الديموقراطية.
وليس دفاعاً عن حكوماتنا، اذا قلنا بأنها ليست وحدها مسؤولة عن تنكرنا وعدم تقبلنا للديموقراطية «الهادفة»، فنحن الذين وفرنا لها المسوغات التي تبرر ذلك، في كل الأحوال وفي حقيقة الأمر وفي نهاية المطاف، انما تستمد هذه المقاومة او هذا الصد والممانعة من واقع مجتمعاتنا المتمترسة خلف ما صاغته وحاكته من موانع ومعوقات فكرية وتراثية مناوئة للديموقراطية.
فقد اسسنا وكرسنا في مجتمعاتنا العربية بيئة يسودها الاستقطاب واحتكار الحقيقة والعدوانية تجاه الاختلاف؛ بيئة مناهضة وطاردة للديموقراطية، وذلك بتشبثنا وتمسكنا بثقافة التعصب وعدم التسامح والكراهية وعدم قبول الآخر والخوف منه واقصائه، وهي خصائص تتنافى مع قيم ومبادئ التعددية والتنوع والحرية الدينية والفكرية التي تشكل في حد ذاتها جوهر الديموقراطية.
كما واننا قد انحرفنا بديننا الحنيف، وجردناه من قِيَمه السامية الناصعة مثل التسامح والتعايش والأخوة والمحبة، وألبسناه ثوب التشدد والتعصب والكراهية، وحمَّلنا الاسلام وزر قراءتنا الخطأ لنصوص تراثنا الديني، فأصبحنا لقرون طويلة نُخَطئ ونلعن ونكفر الآخرين بأعلى اصواتنا من يهود ونصارى وغيرهم، رغم امره جلت قدرته: «وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ»، ثم ضيقنا او وسعنا الدائرة بلعن وتكفير بعضنا بعضاً، رغم قوله سبحانه وتعالى: «وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُوا»، فكم قيل لنا انّ السُنة كُفار وملعونون، وكم سمعنا ان الشيعة كُفار وملعونون، ولا يقر اي منا للآخر بالوجود، وكل منا يدعي احتكار الحقيقة وحصرها، بل عصرها، في نفسه دون الآخر، اننا بذلك نخالف ونتحدى عن وعي وادراك قوله سبحانه وتعالى «ولو شاء ربك لجعل الناس امة واحدة ولا يزالون مختلفين».
والآن الكل يدرك اننا اصبحنا نقبع محصورين في قاع مأزق حضاري وسياسي، بعد ان سقط سياسياً شعار «الاسلام هو الحل»، ما يستوجب ويتطلب سرعة استنهاض همم المفكرين والمثقفين العرب لبلورة رؤية وصيغة حضارية وسياسية مرتكزة على اسس الحداثة ومنبثقة من قيم ومبادئ الديموقراطية المسؤولة الهادفة.
عبدالنبي الشعلة
وزير العمل البحريني الأسبق


إضافة تعليق جديد

التعليق الوارد من المشارك أو القارئ هو تعبير عن رأيه الخاص ولا يعبّر عن رأي جريدة النهار الكويتية

عرض التعليقات